من المشاهد المألوفة في بيوتنا العربية أن يجلس الطفل بجوار الكبار في المجالس العائلية، يستمع إلى ما يدور من أحاديث بين الأهل والأصدقاء. كثير من الأهالي يرون في ذلك فرصة لتعويد الطفل على "الحياة الواقعية"، بينما يرى آخرون أن فيه ضررًا على نفسية الصغار. بين هذين الرأيين يقف السؤال التربوي المهم: متى يكون جلوس الطفل مع الكبار نافعًا، ومتى يتحول إلى خطر صامت على شخصيته؟
الطفل صفحة بيضاء… وكل كلمة تنقش فيه
الأطفال في سنواتهم الأولى مثل الصفحات البيضاء. كل كلمة يسمعونها أو موقف يشاهدونه يترك بصمة في ذاكرتهم، وقد يتحول إلى فكرة أو عادة أو خوف يلازمهم سنوات طويلة. لذلك، ما يظنه الأهل مجرد حديث عابر قد يكون في عقل الطفل "قصة كبيرة" يصعب تفسيرها.
متى يكون جلوس الأطفال مع الكبار مفيدًا؟
رغم التحذيرات، فإن مجالس الكبار ليست كلها سلبية. أحيانًا تكون بيئة ثرية تزرع القيم والمعاني الجميلة في نفوس الصغار. من أبرز الحالات الإيجابية:
- إذا كان المجلس راقيًا: أحاديث عن القيم، قصص عن النجاح، أو مواقف تربوية جميلة. هذه الأجواء تزرع في الطفل حب الفضيلة وحسن الخلق.
- إذا كان الحديث مناسبًا لعمره: كلمات بسيطة، موضوعات واضحة، بعيدة عن القضايا الشائكة أو الأسرار العائلية.
- إذا كان الهدف تعليميًا: تعلّم الطفل آداب الجلوس، الإصغاء، احترام الآخرين، وعدم مقاطعة الحديث. كلها مهارات تبقى معه مدى الحياة.
متى يتحول المجلس إلى خطر على الطفل؟
ليس كل ما يدور في مجالس الكبار يصلح لآذان الصغار. ومن أهم المخاطر:
- الحديث عن المشكلات الأسرية: مثل الخلافات بين الوالدين أو الأقارب. الطفل قد لا يفهم التفاصيل لكنه يستوعب التوتر ويشعر بعدم الأمان.
- تداول أسرار البيت: الطفل بطبيعته بريء وقد ينقل ما يسمعه إلى الآخرين دون قصد، فيكشف أسرارًا خاصة.
- استخدام ألفاظ أو مزاح جارح: النكات الجارحة أو الكلمات غير اللائقة تترك أثرًا سلبيًا في نفس الطفل وقد يقلدها لاحقًا.
- حديث يفوق مستوى وعيه: مثل الخيانة، الطلاق، القضايا المالية أو السياسة. هذه المواضيع قد تزرع فيه القلق أو مشاعر النقص لأنه يسمع شيئًا لا يستطيع تفسيره.
أمثلة واقعية توضح أثر مجالس الكبار
طفل في السادسة سمع كلمة "طلاق" في مجلس أهله، فبدأ يسأل أمه كل يوم إن كانت ستنفصل عن أبيه.
طفلة في السابعة سمعت انتقادًا لشخص من العائلة فنقلت الكلام أمامه ببراءة، فسببت مشكلة كبيرة.
طفل حضر حديثًا عن ديون العائلة، فأصبح يخاف من الفقر ويشعر بعدم الأمان في البيت.
طفل آخر بدأ يقلد أسلوب المزاح الجارح الذي التقطه من مجلس الكبار دون أن يدرك معناه.
كيف يتصرف الوالدان بحكمة؟
الأمر لا يحتاج إلى مبالغة في المنع ولا إلى ترك كامل. الحكمة أن نوازن بين حماية الطفل وتعليمه:
- تعليم الطفل آداب المجلس: كيف يجلس بهدوء، يحترم الحاضرين، يصغي دون مقاطعة، ولا يتدخل في الحديث إلا بإذن.
- تحديد الأوقات المناسبة: إشراك الطفل حين يكون المجلس إيجابيًا وتعليميًا، وإبعاده حين يكون الحديث حساسًا أو خاصًا بالكبار.
- إرسال رسالة واضحة للطفل: من المهم أن نقول له بهدوء: "أنت ما زلت صغيرًا على هذا الحديث، عندما تكبر ستفهم أكثر. الآن يمكنك اللعب أو القراءة."
- حماية نفسية الطفل قبل المجاملات: التربية الصحيحة تعني أن تكون سلامة عقل الطفل ونفسيته أهم من أي مجاملة اجتماعية.
لماذا يعتقد بعض الأهالي أن ذلك مفيد دائمًا؟
البعض يرى أن جلوس الطفل مع الكبار يجعله "رجلاً صغيرًا" أو "امرأة صغيرة". لكن التربية ليست تعجيلًا بالنضج بل بناء متدرج لشخصية متوازنة. الطفل الذي يسمع مشاكل الكبار قبل أوانها قد يكبر وهو مثقل بالهموم.
كيف نخلق مجالس مناسبة للصغار؟
يمكن للأهل أن يحولوا بعض المجالس إلى فرص تربوية رائعة. مثلاً، قبل العشاء العائلي يمكن أن يشارك كل فرد بقصة قصيرة أو موقف إيجابي حدث له في يومه. يمكن أن يُسأل الطفل عن رأيه في موضوع بسيط، فيتعلم التعبير عن نفسه بأدب. بهذه الطريقة يتحول المجلس إلى بيئة تعليمية ممتعة، لا إلى مصدر قلق أو تقليد سلبي.
الخلاصة التربوية الذهبية
الطفل إذا جلس مع الكبار ليتعلم الأدب والاحترام وأخلاقيات الحوار، فهذا أمر جميل ومطلوب. أما إذا جلس ليسمع مشكلات، خلافات، أو مواضيع لا تناسب سنه، فهذا خطر تربوي قد يضرّه أكثر مما ينفعه.
إذن، الحكمة هي التوازن: نسمح له بالجلوس حين يكون الجو نافعًا، ونحميه من المجالس غير المناسبة. فالعقل الصغير يحتاج إلى غذاء يناسب عمره، لا إلى أحاديث فوق طاقته.
✍ هذا المقال يقدّم رؤية تربوية عملية للآباء والأمهات حول مسألة جلوس الأطفال في مجالس الكبار، مستندًا إلى خبرات واقعية ومبادئ علم النفس التربوي.
